المادة    
وبتعبير آخر يطلق على هذه العصور: العصر الحجري، ونحن نلاحظ في اللغات الدارجة عند العامة أننا نستخدم العصر الحجري، بمعنى الماضي القديم البدائي أو الهمجي، أو ما يتسم بالعفوية أو أحياناً بالغباوة وما أشبه ذلك، فيقال: هذه أفكار حجرية أو من العصور الحجرية وما أشبه ذلك. فهل لهذا المدلول حقيقة؟! وهل هو صحيح؟ نحن نحتاج إلى أن ننظر نظرة عقلية علمية ونتأكد من هذا! فمثلاً عندما نقول: دين ما قبل التاريخ. نجد أن عندنا مصطلحين: الدين، وما قبل التاريخ، أو الدين في العصور الحجرية. ونجد أن كلاً من المصطلحين فيه إشكالية! إشكالية ما هو ما قبل التاريخ؟! ثم إشكالية ما هو الدين الذي حكمنا من خلاله على أنه بهذا الشكل أو بذاك، وهما مشكلتان عميقتان عويصتان جداً، لا يمكن للعلماء في التاريخ أو الأنتربولوجيا أو في مقارنة الأديان أو في العلوم الإنسانية عامة أن يتفقوا عليها؛ لأنها إشكالية واسعة وعميقة وهائلة جداً كما سوف نوضح إن شاء الله تبارك وتعالى. ‏
  1. إشكالية كون المراد بالعصر الحجري ما قبل الكتابة

    فمثلاً: إذا قلنا: إن القضية هي قضية ما قبل الكتابة، أو إن عصر ما قبل التاريخ أو العصر الحجري هو ما قبل الكتابة، فمعنى ذلك أنه لا يمكن أن يكون في حياة البشرية معالم واضحة فاصلة مُـحَدِّدة لهذا العصر عما قبله وما بعده! كيف يكون هذا؟!
    إلى الآن يوجد مجتمعات لا تعرف الكتابة! إلى هذه المرحلة! وهي مجتمعات في أستراليا وفي المناطق الاستوائية في أفريقيا وفي الأمازون وغير ذلك، لا ترتقي إلى ما جعلوه حداً فاصلاً بين العصر الحجري وبين العصر الحديث الحضاري.
    فهل نعتبر أن العصر الحجري يمتد في كل أعماق التاريخ؟!
    هذه تدل على أن هذا التعريف غير واضح, وغير منضبط في عموم البشرية، وإنما وضع في أوروبا كما قلنا لمركزية معينة كان ينظر إليها الناقدون الأوربيون وهو التاريخ الأوربي في ذاته.
    ومع ذلك نشاهد أنه حتى داخل العالم -أوروبا وما حولها- نجد أن هناك اختلافاً وتبايناً في الانتقال من العصر الحجري إلى العصر الذي بعده, فمثلاً: عندما نتحدث عن العصر الحجري في بلاد الرافدين و مصر نجدهم يقولون: إنه انتهى تقريباً قبل خمسة آلاف سنة من الآن, يعني: أنه كان قبل ثلاثة آلاف قبل الميلاد, معنى ذلك: أنه قديم، وربما يكون في الصين أو في الهند أقدم من ذلك؛ لكن في أوروبا لم يصل إلى أي من هذه المراحل القديمة بهذا الشكل على الإطلاق.
    فنحن نجد في الكتاب الذي أصدره مجموعة من العلماء العراقيين -وهو في الحقيقة بحوث علمية مركزة عن تاريخ العراق- يقولون: إن هناك إشكالية في قصر المسافة التاريخية الخمسة آلاف سنة, والإشكالية أن هذه الخمسة آلاف أيضاً لا تشمل العالم كما وضحنا، وإنما تشمل الجزء المتحضر منه وهو العراق و مصر ثم جزيرة العرب التي سوف نثبت من كلامهم هم أنها أصل هذه الحضارات.
    لكن المقصود أنه حتى على هذه الإشكالية يقولون: العراق و مصر كانا يعيشان عصور ما قبل التاريخ إلى أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، أما شمال أفريقيا فكان يعيش العصر الحجري -أو ما قبل التاريخ- إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد, واليونان ظلوا في هذه العهود إلى القرن الثامن قبل الميلاد, شمال أوروبا ظل فيها إلى القرن الأول قبل الميلاد, ثم معظم العالم الجديد ظل في هذه الحقبة الحجرية أو ما قبل التاريخ حتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي.
    إذاً: هناك إشكالية كبيرة جداً في هذه المصطلحات وبالذات مصطلح: العصر الحجري أو ما قبل التاريخ، فهو لا يدل بدقة على معنى محدد ومعلم واضح.
  2. إشكال معنى الدين في العصر الحجري

    الإشكالية الأخرى هي: إشكالية الدين. ما معنى الدين عندهم؟ إذا قلنا: أديان ما قبل التاريخ أو الدين في العصر الحجري فما معنى الدين هنا في هذه المرحلة؟! معنى الدين هنا يرتبط بالدلائل التي يمكن أن نعرف بها ماهيته وحقيقته ونوعه، إذا كنا نقول: إنه بعد الكتابة فالأديان حرفت كتابياً، الكتب السماوية نفسها حرفت وهي مقدسة عند أهلها، النقوش أو التدوين الآثاري المكتوب على الورق وعلى الحجارة وما أشبه ذلك قابل للتحريف والتبديل، مع أنه ينطق ويتحدث, يعني: نستطيع أن نقرأ منه معلومات ثابتة، فكيف في عصر ما قبل التاريخ الذي لا يعتمد على الكتابة؛ لأنه إذا وجدنا كتابة اعتبرناها داخلة في عصر التاريخ، إذا لم يكن كتابة فهو عصر ما قبل التاريخ. إذاً: كيف يمكننا أن نعرف ونحدد ما هو الدين في عصر ما قبل التاريخ؟!
  3. إشكال صعوبة تحديد سبب تسمية العصر الحجري بهذا الاسم

    والعصر الحجري لماذا سمي عصراً حجرياً؟! طبعاً المصطلح هذا له سبب, نقوله إجمالاً: لأن الاعتماد أو الآلة المستخدمة فيه هي الحجر, وهذا يدخلنا في متاهة أخرى! هل بالفعل الناس في هذه الأحقاب والآماد الطويلة التي يجعلها بعضهم مئات الألوف من السنين لم يعرفوا إلا الحجر فقط! ولم يعرفوا شيئاً آخر؟!
    ثم بعد ذلك الانتقال من عصر الحجر إلى عصر النحاس أو البرونز -وهو النحاس مع القصدير- يفسرون تاريخ الإنسان من خلال الأداة التي يستخدمها.
    بمعنى آخر: أننا في عصور ما قبل التاريخ لا نجد آثاراً مكتوبة لكننا نجد بقايا أدوات مستخدمة، هذه الأدوات المستخدمة عبارة عن بقايا حجارة كان الإنسان يستخدمها؛ حجارة مدببة مسننة إلى حد ما تدل على أن الإنسان عمل فيها شيئاً ما أو حاول أن يطور فيها بعض الأمور؛ لكي يستخدمها في أغراضه المعيشية.
    هناك اتجاه آخر في تحديد هذا -وهو اتجاه شائع في أوروبا و أمريكا أيضاً- ألا نعتمد على الأداة التي يستخدمها الإنسان في تقسيم العصور، إنما نعتمد على طريقة العيش أو الإنتاج الغذائي نفسه، فإذا عرفنا كيف كان الإنسان يأكل وكيف كان يشرب؟ فإن كان يعتمد على الصيد المجرد فمعنى ذلك: أنه يمكن أن يضرب الفريسة أو الطريدة بأي حجر أو بأي عصا يمسكها بيده أو بأي شيء, ولا يوجد دليل على أداة معينة لهذا الاستخدام.
    إذا وجد مثلاً أنه يستخدم النار معنى ذلك أنه عرف شيئاً من هذه الاستخدامات، وإذا وجدناه يزرع معنى ذلك: أنه عن طريق الحجر أو غيره استطاع أن يحفر الأرض وأن يضع فيها البذور ثم يزرع؛ فلذلك العصر الحجري عندهم أو عصر ما قبل التاريخ يُنظر إليه من الناحية الاقتصادية أو أسلوب المعيشة لا من حيث أداة المعيشة.
    والواقع أن كلا النظريتين تتجه بالإنسان اتجاهاً مادياً هابطاً جداً، بمعنى: أنك لا تستطيع أن تأخذ فكر الإنسان وعقيدة الإنسان وشعوره ونموه الحضاري إلا من خلال الأداة التي يستخدمها, وهذه أبعد شيء عن روح الإنسان وعقله وفكره, أو من خلال طريقته في الأكل أيضاً وهذا بعيد جداً عن المشاعر وعن الروح وعن القيم!
    بمعنى آخر: أن هؤلاء يستبعدون الإيمان بالروح، والإيمان بالفطرة، والإيمان بالحاجة إلى التدين، وبالحاجة إلى معرفة الله تبارك وتعالى، وما أعطاه الله تعالى وأودعه فيه من علم يستطيع به أن يرقى بفهمه إلى أن يكون أسمى وأعلى من أن يكون حيواناً يستخدم أداة أو ما أشبه ذلك، ومع هذا -مع الأسف الشديد- هذه النظرية الرائجة التي بناء على ما بعدها استطاع الإنسان -كما يقولون- أن يتقدم.
    فمثلاً: عندما نجد هنري برستد الكاتب المشهور، -مشهور جداً طبعاً عندنا في الشرق نتيجة ترجمات البعض لكتبه, منهم الدكتور أحمد فخري العالم المؤرخ المشهور ترجم كتابه انتصار الحضارة ، و انتصار الحضارة لـ بروستد أو قصة الحضارة لـ ديورانت وما أشبهها تركز كثيراً أو تبين مثل هذه القضايا.
    مثلاً: يقول بروستد في صفحة إحدى عشر عن الإنسان في هذه المرحلة: كان همجياً ولكنه أرقى قليلاً من الحيوانات التي حوله مهما كانت متقدمة, وإنه لم يكن يمتلك شيئاً غير يديه الفارغتين يستعملهما لحماية نفسه وإشباع جوعه وتأدية كل أغراضه.
    ولا شك -كما يقول- أنه كانت تعوزه القدرة على الحديث المنتظم، ولم يكن في مقدوره أن يشعل النار, ولم يكن هناك من يعلمه شيئاً من ذلك, وهكذا كان أقدم البشر مضطرين لأن يتعلموا كل شيء بأنفسهم عندما بدءوا في هذه الحالة, وكان سبيلهم إلى ذلك التجربة البطيئة والمجهود الطويل.
    نختم بفقره من كلامه حيث يقول: لقد مرت أجيال طويلة على هذا الإنسان, وكان في ذهنه الهمجي شيء من شعاع الذكاء, ولكنه لم يحقق شيئاً من هذه الاختراعات؛ بل لم يفكر أن في استطاعته أن يتمكن من إنتاجها.
    وبناء عليه فإنه في نظرهم اقتصر الإنسان على الأدوات الحادة، وأول ما استخدم الحجارة -لأنها في نظرهم سهلة متوفرة وقريبة منه فبدأ يستخدمها- وبدأ يفكر كيف يعيش ويتطور من خلال أدوات أخرى غير يديه الفارغتين, وكانت هذه الحجارة أقرب ما لديه في هذا الوجود.
    الحقيقة أن هناك مشكلة فكرية أشار إليها الدكتور محمد غلاب - وهو باحث وعالم كبير جداً في الجغرافيا, وفي التطور؛ لكنه مع الأسف فكره فكر منحرف؛ لكن يهمنا الآن أن نأخذ منه- إشكالية الدور الناشئ عن هذه النظرية، وهو الدور بمعناه المنطقي, يعني: أن يتوقف الشيء على الشيء, ويتوقف الآخر عليه بحيث لا ننتهي إلى نتيجة حاسمة في هذا الموضوع.
    يقول: مشكلتنا في عصر ما قبل التاريخ هو أن المقياس فيه هو الإنسان نفسه.
    بمعنى آخر: إذا كان لدينا إنسان فإن لدينا حضارة, أو إذا كان لدينا حضارة فإن لدينا إنساناً! إذا: من أين نبدأ؟ وكيف نعرف من الذي بدأ؟ وكيف بدأت الحضارة؟!
    فمثلاً: إذا أثبتنا أن حضارة ما موجودة في مكان معين فهذا يعني أن هناك بشراً، وهذا يبطل القول بأن قبل البشر أنواعاً كما يسمونها الإنسان غير العاقل أو القردة العليا أو ما أشبه ذلك أنشأت هذه الحضارة, وإذا قلنا هناك إنسان موجود فهل يمكن أن يكون الإنسان إلا ومعه الحضارة!
    فهنا نشأت إشكالية: هل هؤلاء البشر أسوياء؟! أو أننا نقول -كما على كلام بروستد الماضي-: همج لا يدركون شيئاً، ولم تبدأ المرحلة الإنسانية بعد، فمن تصفهم بأنهم لا يملكون إلا أيديهم الفارغة وهمج، ليسوا بشراً وإنما هم كما يقال: القردة العليا أو ما أشبه ذلك!
    دخلوا في هذه المتاهة فلم يستطيعوا أن يخرجوا منها, ولم يستطيعوا أن يحددوا اليقين, أو يجزموا بشيء في هذه القضايا التاريخية الخطيرة والمهمة.